الزواج وتكوين أسرة للأشخاص ذوي الإعاقة: تحديات وحقوق

الزواج وتكوين أسرة للأشخاص ذوي الإعاقة: تحديات وحقوق

  إنسان مختلف...بذات قوة:

هل يختلف القلب حين يسكنه الحب؟

في أعماق كل إنسان، بغض النظر عن ظروفه، تكمن غريزة فطرية نحو السكينة والمودة. الرغبة في العثور على شريك للحياة، وبناء أسرة، وتكوين ملاذ آمن يسمى "البيت"، هي ليست رفاهية، بل جوهر إنساني مشترك.

الزواج وتكوين أسرة للأشخاص ذوي الإعاقة: تحديات وحقوق
الزواج وتكوين أسرة للأشخاص ذوي الإعاقة: تحديات وحقوق
لكن، ماذا لو وُضعت هذه الغريزة الأصيلة في مواجهة جدران من الصور النمطية والتحديات المجتمعية؟ هذا هو الواقع الذي يعيشه ملايين الأشخاص ذوي الإعاقة في رحلتهم نحو الزواج وتكوين أسرة.

 هذا المقال لا يستعرض قضيتهم كحالة خاصة، بل كمرآة تعكس مدى إنسانية مجتمعاتنا، مستكشفاً الهوة بين الحقوق الأصيلة والواقع المعاش.

أ/  الحق في الحب والأسرة: ركيزة إنسانية تكفلها الشرائع والقوانين

إن حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الزواج ليس منّة أو هبة، بل هو حق أصيل متجذر في كرامتهم الإنسانية.

 اللافت للنظر هو الإجماع القوي بين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية على تأكيد هذا الحق، مما يوضح أن العوائق التي تحول دون تحقيقه ليست قانونية أو دينية في جوهرها، بل هي اجتماعية وثقافية بامتياز.

الإطار القانوني الدولي: اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة:

تمثل اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD)، التي تبنتها الأمم المتحدة، حجر الزاوية في الإطار القانوني العالمي.

 تنص المادة 23 من هذه الاتفاقية بوضوح لا لبس فيه على ضرورة أن تتخذ الدول الأطراف "تدابير فعالة ومناسبة للقضاء على التمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة في جميع المسائل ذات الصلة بالزواج والأسرة والوالدية والعلاقات، وعلى قدم المساواة مع الآخرين".  

تتفرع عن هذه المادة مجموعة من الحقوق الأساسية والمفصلة التي تشكل درعاً قانونياً يحمي طموحاتهم الأسرية:

  • الحق في الزواج وتأسيس أسرة: تكفل الاتفاقية صراحةً "حق جميع الأشخاص ذوي الإعاقة الذين هم في سن الزواج في التزوج وتأسيس أسرة برضا معتزمي الزواج رضا تاماً لا إكراه فيه".

 هذا التأكيد على الرضا الحر والكامل يضع قرار الزواج في يد الشخص المعني مباشرة، ويرفض أي شكل من أشكال الوصاية التي قد تحرمه من هذا الاختيار الشخصي.  

  • الحق في اتخاذ قرارات إنجابية مسؤولة: تعترف الاتفاقية بحقهم في "اتخاذ قرار حر ومسؤول بشأن عدد الأطفال الذين يودون إنجابهم وفترة التباعد بينهم".

 ولضمان أن يكون هذا القرار مستنيراً، تلزم الاتفاقية الدول بتوفير المعلومات والتثقيف اللازمين في مجال الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة.  

  • الحق في الحفاظ على الخصوبة: تشدد الاتفاقية على ضرورة حماية خصوبة الأشخاص ذوي الإعاقة، بمن فيهم الأطفال، على قدم المساواة مع الآخرين، ومنع أي ممارسات قد تؤدي إلى تعقيمهم قسراً.  

ب/ المنظور الشرعي الإسلامي: تأصيل الحق والضوابط الحافظة:

تتعامل الشريعة الإسلامية مع قضية زواج الأشخاص ذوي الإعاقة من منطلق الرحمة والعدل وحفظ الكرامة الإنسانية.

كما تؤكد مؤسسات فقهية مرموقة، مثل دار الإفتاء المصرية، أن الزواج حق مكفول لهم، بما في ذلك ذوي الإعاقات الذهنية، لأنهم بشر مركب فيهم العاطفة والشهوة، ويحتاجون إلى السكن النفسي والمادي.  

اقرأ ايضا: صوت لا يُستثنى: نحو مشاركة سياسية وعامة كاملة للأشخاص ذوي الإعاقة

وقد وضعت الشريعة ضوابط تهدف إلى حماية مصالحهم وضمان استقرار الزواج، وليس تقييد حقهم فيه:

  • دور الولي: في حالات الإعاقة الذهنية التي قد تؤثر على القدرة على اتخاذ قرارات معقدة، يتولى الولي (الأب أو الوصي الشرعي) عقد الزواج نيابة عن الشخص.

تصرفات الولي هنا مقيدة بالمصلحة العليا للشخص ذي الإعاقة، فإن كان الزواج يحقق له استقراراً نفسياً أو صحياً، فلا يجوز منعه منه.  

  • الشفافية والصدق: تشدد الشريعة على وجوب إخبار الطرف الآخر بطبيعة الإعاقة بشكل واضح قبل عقد الزواج.
  •  الأمان ودفع الضرر: من الشروط المهمة أن يكون الشخص ذو الإعاقة مأمون الجانب، ولا يُعرف عنه سلوك عدواني قد يلحق الضرر بالشريك.  

ج/  جدران الوهم: تحديات مجتمعية ونفسية في طريق الزواج:

على الرغم من أن الحق في الزواج مكفول قانوناً وشرعاً، إلا أن الطريق إليه بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة محفوف بالعقبات التي لا تنبع من الإعاقة ذاتها، بل من نظرة المجتمع إليها.

النظرة المجتمعية والصور النمطية:

تكمن العقبة الأولى والأكثر رسوخاً في الصور النمطية السلبية التي يتبناها المجتمع. غالباً ما يُنظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة على أنهم كائنات "لا جنسية" أو "طفولية"، غير قادرين على تحمل مسؤوليات الزواج أو أداء الأدوار الزوجية والأبوية.

 هذه النظرة الاختزالية تجردهم من إنسانيتهم الكاملة وتضعهم في خانة "المحتاجين للرعاية" فقط، وليس "الراغبين في تقديمها" أيضاً.  

مخاوف الأسرة والحماية المفرطة:

غالباً ما تكون الأسرة هي خط الدفاع الأول عن أبنائها من ذوي الإعاقة، لكنها قد تتحول، عن غير قصد، إلى عائق كبير أمام استقلالهم العاطفي. تنبع هذه المعضلة من مزيج معقد من الحب والخوف.

التحديات النفسية الداخلية:

إن العيش في بيئة مجتمعية وأسرية تشكك باستمرار في قدراتك وقيمتك كإنسان كامل يترك ندوباً نفسية عميقة.

كما يتعرض الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة لعملية "استبطان" لهذه الصور النمطية، مما يؤدي إلى تدني احترام الذات، وفقدان الثقة بالنفس، والشعور الدائم بأنهم عبء على الآخرين.  

العقبات المادية والمالية:

تأتي التحديات المادية لتضع القفل الأخير على هذه الحلقة المفرغة. يواجه العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة صعوبات في الحصول على فرص عمل لائقة، مما يؤدي إلى محدودية دخلهم المادي.

د/  بناء جسور الأمل: دور الدعم الأسري والمؤسسيك

إن مواجهة التحديات المعقدة التي تعترض طريق زواج الأشخاص ذوي الإعاقة تتطلب حلولاً شاملة ومتكاملة. لا يكفي تقديم الدعم المالي بمعزل عن الدعم النفسي، أو توفير الإرشاد دون معالجة العوائق اللوجستية.

إن بناء حياة زوجية ناجحة ومستدامة يعتمد على منظومة دعم متكاملة الأركان، تبدأ من الأسرة وتمتد لتشمل المؤسسات المجتمعية المتخصصة، وتغطي كافة الجوانب العملية للحياة.

قوة الدعم الأسري والمجتمعي:

تلعب الأسرة دوراً محورياً في هذه الرحلة. ففي مقابل الأسر التي تقف عائقاً بسبب الخوف، هناك أسر أخرى تتحول إلى جسر يعبر بأبنائها فوق التحديات.

إن الدعم الأسري الواعي والمستنير هو حجر الزاوة الذي يمنح الشخص ذا الإعاقة الثقة بالنفس لمواجهة العالم الخارجي. قصة إبراهيم، الشاب ذي متلازمة داون، هي مثال ساطع على ذلك.

دور المؤسسات المتخصصة:

من أبرز هذه المؤسسات جمعية تيسير في المملكة العربية السعودية، التي تقدم حزمة متكاملة من الخدمات :  

  • الدعم المادي والعيني: تقدم الجمعية إعانات مالية وعينية للمقبلين على الزواج، وتنفذ مشاريع نوعية مثل "مشروع عون" لتأثيث منازلهم، و"مشروع سداد الإيجار" لمساعدتهم في بداية حياتهم.  
  • التأهيل والإرشاد الأسري: إيماناً بأن الزواج ليس مجرد حفل، توفر الجمعية برامج تأهيلية للمقبلين على الزواج، بالإضافة إلى خدمات الإرشاد الأسري المستمرة بعد الزواج لضمان استقرار العلاقة ومواجهة أي تحديات مستقبلية.  
  • التوفيق بين الراغبين بالزواج: تعمل الجمعية كحلقة وصل آمنة وموثوقة بين الأشخاص ذوي الإعاقة الراغبين في الزواج، مما يوفر لهم فرصة للتعارف في بيئة داعمة ومحترمة.  

المتطلبات العملية واللوجستية:

إلى جانب الدعم العاطفي والمادي، هناك متطلبات عملية أساسية لا يمكن إغفالها لضمان نجاح الزواج واستدامته:

الرعاية الصحية والفحوصات: تبرز أهمية فحص ما قبل الزواج والمشورة الوراثية بشكل خاص في هذا السياق. كما أن التقييم الطبي الشامل للقدرة الجسدية والنفسية على تحمل أعباء الزواج يعد خطوة ضرورية.  

تكييف المسكن (السكن الميسر): يعد السكن أحد أكبر التحديات اللوجستية. فالحاجة إلى مسكن مجهز ومكيف لتلبية متطلبات الإعاقة (مثل وجود منحدرات بدلاً من السلالم، وأبواب واسعة، وحمامات مجهزة) ليس ترفاً، بل ضرورة قصوى للاستقلالية والعيش بكرامة.

هـ/  قصص تُلهم القوة: حين ينتصر الحب على كل التحديات

خلف لغة الأرقام والقوانين والتحديات، تقف قصص إنسانية حقيقية تجسد أسمى معاني الإرادة والحب. هذه القصص ليست مجرد حكايات ملهمة، بل هي دليل حي وبرهان عملي على أن الصور النمطية السلبية ما هي إلا أوهام تتلاشى أمام قوة العزيمة وصدق المشاعر.

إنها تقدم بيانات نوعية تفند الافتراضات المجتمعية الخاطئة وتثبت أن الزواج وتكوين أسرة ليسا حلماً بعيد المنال، بل واقع ممكن ومثمر.

آية وبلال: تكامل يتجاوز الإعاقة:

تعتبر قصة آية داوود، التي لديها إعاقة حركية، وزوجها بلال، الذي يعاني من إعاقة بصرية، نموذجاً فريداً للتكامل الذي يمكن أن يخلقه الحب.

 تعارفا في أروقة الجامعة، وبنيا معاً أسرة مكونة من ثلاثة أبناء. قصتهما هي الرد الأبلغ على كل من شكك في قدرتهما على رعاية بعضهما البعض.

إبراهيم: إرادة تتحدى الصور النمطية:

تتحدى قصة إبراهيم، الشاب ذي متلازمة داون، واحدة من أعمق الصور النمطية وأكثرها رسوخاً، وهي تلك التي تحيط بزواج الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية.

 بزواجه من فتاة لا تعاني من أي إعاقة، وبمباركة من عائلتيهما، أثبت إبراهيم أن الوعي والقدرة على تحمل المسؤولية لا يرتبطان بالضرورة بالقدرات الذهنية التقليدية

شهادات وقصص أخرى: فسيفساء من الصمود والحب:

تتعدد القصص وتتنوع، وكل منها يضيف قطعة فريدة إلى لوحة الصمود الإنساني. هناك قصص لأزواج كلاهما من ذوي الإعاقة، وجدوا في معاناتهم المشتركة فهماً عميقاً وتفاهماً لا يحتاج إلى كلمات.

و/  وفي الختام: قوة تتجاوز الاختلاف:

 تتجاوز قضية زواج الأشخاص ذوي الإعاقة حدودها لتصبح مقياساً لعمق إنسانيتنا. إنها رحلة تكشف أن أكبر العوائق ليست تلك التي تفرضها الطبيعة، بل تلك التي نصنعها بأيدينا من خلال الجهل والأحكام المسبقة.

 لقد رأينا كيف أن القوانين الدولية والشرائع السماوية تقف صفاً واحداً لتكفل هذا الحق الأصيل، وكيف أن التحديات الحقيقية تكمن في العقول والقلوب، وفي الهياكل الاجتماعية التي لم تُصمم بعد لتشمل الجميع.

نؤمن أن لكل قصة قيمتها. شاركونا آراءكم وتجاربكم في التعليقات، فصوتكم يساهم في بناء وعي أكثر تقبلاً ورحمة.

اقرأ ايضا: قصص نجاح ملهمة لرواد أعمال من ذوي الإعاقة

هل لديك استفسار أو رأي؟
يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

منصة دوراتك استخدم كود D1 واحصل على خصم اضافي15%

نموذج الاتصال