صوت لا يُستثنى: نحو مشاركة سياسية وعامة كاملة للأشخاص ذوي الإعاقة
إنسان مختلف بذات قوة:
من التهميش إلى التمكين - لماذا تعتبر المشاركة حقاً ديمقراطياً جوهرياً؟
إن حيوية أي ديمقراطية لا تُقاس فقط بوجود صناديق الاقتراع، بل بمدى شمولية هذه الصناديق وقدرتها على احتواء كل صوت في المجتمع.
وعندما يُستبعد ما يزيد عن مليار شخص حول العالم من ذوي الإعاقة، أي ما يعادل 15% من سكان الكوكب، من المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والعامة، فإن هذا لا يمثل مجرد إغفال إحصائي، بل هو خلل جوهري في بنية المواطنة نفسها وشهادة على ديمقراطية غير مكتملة. صوت لا يُستثنى: نحو مشاركة سياسية وعامة كاملة للأشخاص ذوي الإعاقة
أ/ الإطار الحقوقي كأساس للمواطنة الفاعلة:
إن المشاركة في الحياة السياسية والعامة ليست منحة أو امتيازاً، بل هي حق أساسي من حقوق الإنسان، كرسته المواثيق الدولية كحجر زاوية للمواطنة الكاملة والفاعلة.
وتُعد اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD)، التي صادقت عليها 185 دولة حتى الآن، الصك الدولي الأكثر شمولاً وتأثيراً في هذا المجال، حيث تضع إطاراً قانونياً وأخلاقياً واضحاً لالتزامات الدول تجاه مواطنيها من ذوي الإعاقة.
جوهر الاتفاقية الدولية: المادة 29 كركيزة قانونية:
تعتبر المادة 29 من الاتفاقية بمثابة الدستور العالمي للحقوق السياسية للأشخاص ذوي الإعاقة. فهي لا تكتفي بتأكيد الحق في المشاركة، بل تفصّل التزامات الدول الأطراف لضمان ممارسة هذا الحق على قدم المساواة مع الآخرين، وتتعهد الدول بموجب هذه المادة بما يلي :
- ضمان الحق في التصويت والترشح: كفالة الحق والفرصة للأشخاص ذوي الإعاقة كي يصوتوا ويُنتَخبوا، دون أي تمييز.
- تيسير الإجراءات والمرافق: ضمان أن تكون إجراءات التصويت ومرافقه ومواده مناسبة وميسرة وسهلة الفهم والاستعمال، بما في ذلك تسهيل استخدام التكنولوجيا المُعِينة والجديدة.
- حماية سرية الاقتراع والاستقلالية: حماية حق الأشخاص ذوي الإعاقة في التصويت عن طريق الاقتراع السري دون ترهيب، والسماح لهم باختيار شخص لمساعدتهم على التصويت عند الحاجة، مع كفالة حرية تعبيرهم عن إرادتهم.
من الحقوق إلى الواقع: الفجوة بين النص والتطبيق:
على الرغم من التقدم الكبير على المستوى التشريعي الدولي، لا تزال هناك فجوة واسعة بين التصديق على الاتفاقيات والتنفيذ الفعلي على المستوى الوطني.
كماأن العديد من الدول العربية، كالمملكة العربية السعودية، خطت خطوات هامة في مواءمة تشريعاتها الوطنية مع المعايير الدولية، من خلال إصدار "نظام حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة" وإنشاء "هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة".
ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر هو ترجمة هذه القوانين إلى ممارسات ملموسة تضمن وصول كل شخص ذي إعاقة إلى حقوقه السياسية دون عوائق.
ب/ تفكيك الحواجز: تحديات هيكلية وثقافية متجذرة:
إن إقصاء الأشخاص ذوي الإعاقة عن الحياة السياسية والعامة ليس ناتجاً عن عقبات فردية متفرقة، بل هو نتيجة منظومة متكاملة من الحواجز المتشابكة التي تعمل على مستويات متعددة مادية، قانونية، اجتماعية، وتواصلية. هذه الحواجز لا تعمل بمعزل عن بعضها البعض، بل هي منظومة متداعمة تعزز الإقصاء بشكل منهجي.
اقرأ ايضا: قصص نجاح ملهمة لرواد أعمال من ذوي الإعاقة
الحواجز المادية والبيئية:
تُعد الحواجز المادية العقبة الأكثر وضوحاً ومباشرة أمام المشاركة. وتشمل هذه الحواجز:
- عدم إمكانية الوصول المادي: لا تزال الغالبية العظمى من المباني العامة، بما في ذلك مراكز الاقتراع والمقرات الحكومية ومكاتب الأحزاب السياسية، غير مجهزة لاستقبال الأشخاص ذوي الإعاقات الحركية بسبب وجود السلالم، وغياب المصاعد والمنحدرات، والممرات الضيقة.
- عوائق النقل: تمثل صعوبة الوصول إلى وسائل النقل العام تحدياً كبيراً يمنع الكثيرين من الوصول إلى أماكن المشاركة.
الحواجز القانونية والتشريعية:
غالباً ما تكون القوانين واللوائح نفسها هي التي تكرّس الإقصاء، حتى وإن كانت النوايا حسنة. ومن أبرز هذه الحواجز:
- قوانين تمييزية: لا تزال بعض التشريعات الوطنية، كما في القانون المدني العراقي لعام 1951، تمنح السلطات القضائية صلاحية حرمان الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية أو النفسية الاجتماعية من "الأهلية القانونية"، مما يسقط عنهم تلقائياً حق التصويت والترشح.
- متطلبات إقصائية: إن اشتراط الحصول على شهادات علمية معينة للترشح للمناصب العامة يشكل حاجزاً كبيراً أمام الأشخاص ذوي الإعاقة الذين واجهوا تاريخياً عقبات هائلة في النظام التعليمي غير الدامج.
الحواجز الاجتماعية والثقافية (الموقفية):
قد تكون الحواجز غير المرئية هي الأصعب في التغلب عليها، حيث تتجذر في العقليات والثقافات السائدة:
الوصم والصور النمطية: لا تزال النظرة المجتمعية السائدة في كثير من الأحيان تصور الأشخاص ذوي الإعاقة كـ "ضحايا" أو "متلقين للرعاية" أو "موضوع للشفقة والإحسان"، بدلاً من النظر إليهم كمواطنين كاملي الحقوق، وفاعلين، وأصحاب كفاءات وقدرات.
التحيز والتوقعات المنخفضة: غالباً ما تتردد الأحزاب السياسية في دعم مرشحين من ذوي الإعاقة، ليس بسبب نقص الكفاءة، بل بسبب تحيزات داخلية وتوقعات منخفضة بشأن قدرتهم على الفوز أو الأداء في المناصب العامة.
ج/ بناء الجسور: إستراتيجيات عملية للدمج والتمكين:
إن الانتقال من تشخيص الحواجز إلى بناء مجتمعات شاملة يتطلب استراتيجية متعددة الأوجه، تجمع بين الإصلاحات التشريعية الجذرية، والإجراءات العملية الملموسة، والتمكين المنهجي للأفراد، والعمل الدؤوب على تغيير العقليات المجتمعية.
لا يكفي هدم جدار واحد من جدران الإقصاء؛ بل يجب بناء جسور متينة تضمن العبور الآمن للجميع إلى ساحة المواطنة الفاعلة.
الإصلاح التشريعي وتطبيق السياسات:
الأساس لأي تغيير مستدام هو وجود إطار قانوني قوي وفعال.
- مواءمة القوانين الوطنية: يجب على الدول إجراء مراجعة شاملة لكافة تشريعاتها—بما في ذلك القانون المدني، وقوانين الانتخابات، وقوانين الأحزاب السياسية لإلغاء جميع الأحكام التمييزية وضمان توافقها الكامل مع مبادئ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، خاصة فيما يتعلق بالأهلية القانونية.
- تبني إجراءات إيجابية: لكسر حلقة التهميش التاريخي، يمكن للدول النظر في تطبيق تدابير خاصة ومؤقتة، مثل تخصيص حصص (كوتا) للأشخاص ذوي الإعاقة في البرلمانات والمجالس المنتخبة. هذه الإجراءات ليست تمييزاً، بل هي أداة ضرورية لتسريع تحقيق المساواة الفعلية وضمان التمثيل العادل.
إتاحة العملية الانتخابية برمتها:
يجب أن تكون إمكانية الوصول مبدأً حاكماً في كل مرحلة من مراحل العملية الانتخابية.
- الولوج الشامل كمعيار أساسي: يجب تطبيق مبادئ "التصميم الشامل" ليس فقط على البنية التحتية لمراكز الاقتراع، بل على جميع الإجراءات والمواد والتقنيات المستخدمة، من مرحلة تسجيل الناخبين إلى يوم الاقتراع وما بعده.
- توفير المعلومات بجميع الصيغ: يتوجب على السلطات الانتخابية نشر جميع المواد المتعلقة بالانتخابات—بما في ذلك برامج المرشحين، وأوراق الاقتراع، والمواد التوعوية—بصيغ متعددة وميسرة تشمل لغة برايل، والطباعة بأحرف كبيرة، ولغة الإشارة (عبر مقاطع الفيديو)، والصيغ الصوتية، والصيغ الإلكترونية المتوافقة مع قارئات الشاشة، واللغة المبسطة وسهلة القراءة.
د/ التكنولوجيا والابتكار: أدوات جديدة لممارسة ديمقراطية شاملة:
في عصر الثورة الرقمية، تمتلك التكنولوجيا القدرة على أن تكون الحليف الأقوى في تفكيك الحواجز التقليدية التي طالما حالت دون المشاركة الكاملة للأشخاص ذوي الإعاقة. يمكن للابتكار أن يعيد تعريف مفهوم "الوصول" وأن يفتح آفاقاً جديدة للمشاركة الديمقراطية.
ومع ذلك، تحمل هذه الثورة في طياتها تحدياً جوهرياً: فالتكنولوجيا التي لم تُصمَّم لتكون شاملة للجميع يمكن أن تخلق فجوات رقمية جديدة وتعمّق من أشكال الإقصاء القائمة.
التكنولوجيا المساعدة كأداة للتمكين الفردي:
تُعرَّف "التكنولوجيا المساعدة" بأنها أي منتج أو نظام يُستخدم للحفاظ على الأداء الوظيفي للفرد أو تحسينه. هذه التقنيات تلعب دوراً حاسماً في تمكين الأفراد من الوصول إلى المعلومات والمشاركة بفاعلية واستقلالية.
ومن الأمثلة على ذلك:
- قارئات الشاشة وبرامج تكبير النصوص: التي تمكّن الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر من الوصول إلى المحتوى الرقمي على المواقع الإلكترونية والوثائق.
- برامج تحويل الكلام إلى نص والعكس: التي تسهل التواصل للأشخاص ذوي الإعاقات السمعية أو صعوبات النطق.
- أدوات التحكم البديلة: مثل الفأرة التي تُدار بالرأس، أو أنظمة التتبع بحركة العين، أو مفاتيح التحكم باللمس، التي تتيح للأشخاص ذوي الإعاقات الحركية الشديدة التفاعل مع أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الذكية.
إن إتاحة هذه التقنيات بأسعار معقولة لا يساهم فقط في تمكين الأفراد، بل هو أيضاً استثمار مباشر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وضمان عدم ترك أي شخص خلف الركب في مسيرة التنمية.
المنصات الرقمية والحكومة الإلكترونية الشاملة:
توفر المنصات الرقمية فرصة هائلة لتجاوز الحواجز المادية والجغرافية.
- التصويت الإلكتروني الميسر: يمكن لأنظمة التصويت الإلكتروني، إذا تم تصميمها وفقاً لمعايير الوصول العالمية، أن تتيح للأشخاص ذوي الإعاقة التصويت من منازلهم باستقلالية وسرية تامة، متجاوزين بذلك تحديات الوصول إلى مراكز الاقتراع.
- البوابات الحكومية الشاملة: تعمل العديد من الحكومات على تطوير بوابات إلكترونية موحدة لتقديم خدماتها، وهو ما يمثل فرصة لضمان وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى جميع الخدمات الحكومية والمعلومات السياسية بسهولة.
لقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في طرق التنظيم السياسي والمشاركة المدنية. بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة، أتاحت هذه المنصات ساحة عامة افتراضية يمكنهم من خلالها تجاوز الحواجز المادية للتعبير عن آرائهم، وتنظيم صفوفهم، وممارسة الضغط على صناع القرار. وقد شهد العالم العربي حملات مناصرة ناجحة تم إطلاقها وتنسيقها عبر الإنترنت، ومنها:
- حملة "مجتمع_يتسع_للجميع" في فلسطين: التي انطلقت لتسليط الضوء على حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والضغط على الجهات الرسمية لتطبيق القانون الخاص بهم.
- حملة "نحبوه آمن" في تونس: التي أطلقتها جمعيات المجتمع المدني بهدف الضغط على البرلمان لإصدار قانون يجرم التمييز والتنمر ضد الأشخاص ذوي الإعاقة في الفضاء الرقمي.
تُظهر هذه الأمثلة كيف يمكن للتكنولوجيا أن تتحول من مجرد أداة خدمية إلى محرك قوي للتغيير السياسي والاجتماعي، واضعين السلطة في أيدي الأفراد والمجتمعات للمطالبة بحقوقهم.
هـ/ وفي الختام: مجتمع يتسع للجميع.. دعوة للعمل المشترك:
إن ضمان المشاركة السياسية والعامة للأشخاص ذوي الإعاقة ليس مجرد التزام قانوني تفرضه المواثيق الدولية، أو قضية هامشية تخص فئة معينة، بل هو في جوهره اختبار لمدى صدق المجتمعات في تبنيها لقيم الديمقراطية والمساواة والعدالة.
إنه حق أساسي، ومسؤولية أخلاقية، وضرورة حتمية لبناء مجتمعات قوية ومتماسكة لا يتخلف فيها أحد عن الركب. وفي ختام هذا التحليل، لا بد من توجيه دعوة مباشرة ومحفزة للعمل المشترك، فالمسؤولية تقع على عاتق الجميع.
اقرأ ايضا: الوصول الشامل: بناء مجتمعات دامجة ومستقبل متمكّن للأشخاص ذوي الإعاقة
هل لديك استفسار أو رأي؟يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة.