إستراتيجيات شاملة لمكافحة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة

إستراتيجيات شاملة لمكافحة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة

إنسان مختلف...بذات قوة:

في عالم يسعى جاهداً لتعريف "الطبيعي" و"السوي"، غالبًا ما يُنظر إلى الاختلاف على أنه نقص. تشير الإحصاءات العالمية إلى وجود ما يقرب من 240 مليون طفل يعيشون مع شكل من أشكال الإعاقة.

إستراتيجيات شاملة لمكافحة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة
إستراتيجيات شاملة لمكافحة الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة

أ/ جذور الوصمة: تفكيك القوالب النمطية تاريخياً وثقافياً:

إن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة ليست ظاهرة حديثة، بل هي نتاج قرون من الخوف والجهل والممارسات الإقصائية.

لفهم عمق التحدي الذي نواجهه اليوم، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية والثقافية التي شكلت هذه التصورات السلبية، وتفكيك الأساطير الحديثة التي لا تزال تغذيها.

من الإبادة إلى الإهمال: مسار تاريخي لتجريد الإنسان من إنسانيته:

يكشف التاريخ عن مسار مظلم في تعامل المجتمعات مع الأشخاص ذوي الإعاقة. في العصور القديمة، لم يكن هناك مكان للاختلاف الجسدي أو العقلي. ففي "مرحلة الإبادة"، كانت النظرة السائدة تدعو إلى التخلص المباشر من الأفراد "غير المكتملين".

إن هذا التطور التاريخي من الإبادة الجسدية، إلى العزل المؤسسي، وصولًا إلى الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي الذي نراه اليوم في أشكال التمييز في العمل والتعليم، يكشف عن نمط ثابت ومقلق. لقد تغيرت الأساليب وأصبحت أكثر دهاءً، لكن الدافع الأساسي لإبعاد "الاختلاف" عن المشهد العام لا يزال قائمًا.

ب/ دحض الأساطير الحديثة والقوالب النمطية الثقافية:

تتغذى الوصمة المعاصرة على مجموعة من الأساطير والمفاهيم الخاطئة التي، على الرغم من تفنيدها مرارًا وتكرارًا، لا تزال تتمتع بنفوذ واسع.

هذه الأساطير ليست مجرد معتقدات مجردة، بل هي الأساس الفكري الذي يبرر استمرار الممارسات التمييزية.

أسطورة انعدام الكفاءة والإنتاجية:

من أكثر الصور النمطية شيوعًا هو الاعتقاد بأن الأشخاص ذوي الإعاقة أقل إنتاجية، أو أنهم مناسبون فقط للأعمال اليدوية غير الماهرة.

اقرأ ايضا : تحديات تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة في سوق العمل وكيف نتغلب عليها؟

كماأن هذا الافتراض يتجاهل حقيقة أن معظم الموظفين من ذوي الإعاقة يعملون بمستويات إنتاجية تعادل أو تفوق أقرانهم عندما تتاح لهم بيئة عمل مناسبة. كما أنهم يجلبون معهم مجموعة واسعة من المهارات والمواهب والمؤهلات الأكاديمية والمهنية.  

أسطورة التبعية والعالة:

 غالبًا ما يُنظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة على أنهم عبء دائم على أسرهم ومجتمعاتهم، أو "عالة" كما يُشار إليهم في بعض السياقات.

أسطورة العجز العاطفي والجنسي:

 يتجاهل المجتمع في كثير من الأحيان حق الأشخاص ذوي الإعاقة في التمتع بحياة عاطفية وجنسية طبيعية، وينظر إليهم على أنهم "عاجزون" في هذا الجانب.

الأساطير الخارقة للطبيعة:

 في بعض السياقات الثقافية، وخاصة في البلدان النامية، تتخذ الوصمة أشكالًا أكثر خطورة، حيث يُعتقد أن الأشخاص ذوي الإعاقة يجلبون الحظ السيئ، أو أن أجسادهم تمتلك خصائص سحرية يمكن استخدامها في الطقوس.

أساطير الحواس الخارقة:

 من المفاهيم الشائعة أن الأشخاص المكفوفين يمتلكون "حاسة سادسة" كتعويض عن فقدان البصر.

ج/ الأثر الخفي: تحليل الأبعاد النفسية والاجتماعية للتمييز:

لا تقتصر آثار الوصمة الاجتماعية على الحرمان من الفرص المادية كالتعليم والعمل، بل تمتد لتترك ندوبًا عميقة في الصحة النفسية والنسيج الاجتماعي للأفراد ذوي الإعاقة وأسرهم. إن هذا التأثير الخفي، الذي غالبًا ما يتم تجاهله، هو أحد أخطر جوانب التمييز.

العبء المزدوج: الوصمة العامة والوصمة الذاتية:

"الوصمة بتظهر في شكلين مرتبطين ببعض: وصمة من الناس حوالينا (خارجية)، ووصمة إحنا نفسنا بنحملها جوه (داخلية). والاتنين بيأثروا بشكل سلبي ومدمّر.".

الوصمة العامة:

تشمل التحيز والتمييز الموجودين في المجتمع. وتتكون من المعتقدات السلبية (مثل الاعتقاد بأن الأشخاص ذوي الإعاقة خطرون أو غير أكفاء)، وردود الفعل العاطفية السلبية (مثل الخوف أو الشفقة)، والسلوكيات التمييزية (مثل تجنبهم أو حجب فرص العمل والسكن عنهم).

الوصمة الذاتية:

 هي العملية التي يقوم من خلالها الشخص ذو الإعاقة باستيعاب هذه المواقف والمعتقدات المجتمعية السلبية وتوجيهها نحو ذاته. عندما يسمع الفرد مرارًا وتكرارًا أنه أقل شأنًا أو غير قادر، قد يبدأ في تصديق ذلك.

دوامة العزلة وعواقبها الصحية:

تؤدي الوصمة والتمييز بشكل مباشر إلى العزلة الاجتماعية. فالرفض المجتمعي يدفع الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة إلى الانسحاب من التفاعلات الاجتماعية لتجنب الأحكام المسبقة أو النظرات الفضولية أو التعليقات الجارحة.

الأثر المضاعف على الأسر ومقدمي الرعاية:

لا يتوقف تأثير الوصمة عند الفرد ذي الإعاقة، بل يمتد كتموجات ليؤثر على أسرته بأكملها. قد يشعرون بالخجل من إظهار طفلهم في المجتمع، مما يدفعهم إلى تقليص علاقاتهم الاجتماعية والانعزال.

هذا الانعزال، بالإضافة إلى الضغوط اليومية لتقديم الرعاية، يخلق دائرة مفرغة من التوتر المزمن، والشعور بالذنب، واللوم، والإرهاق، مما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية لجميع أفراد الأسرة.  

د/ بناء مجتمع دامج: دور اللغة والتعليم والمشاركة الفعالة:

إن تفكيك الوصمة يتطلب أكثر من مجرد نوايا حسنة؛ إنه يتطلب تغييرًا بنيويًا في الطريقة التي نفكر بها، ونتحدث، ونعلم، ونشرّع.

 إن بناء مجتمع دامج هو مشروع جماعي يبدأ من أصغر الوحدات - الكلمات التي نستخدمها - ويمتد إلى أكبر الأنظمة، كالتعليم والقانون.

قوة الكلمات: من التسميات السلبية إلى اللغة الدامجة:

تلعب اللغة دورًا محوريًا في تشكيل التصورات. لقد شهدنا في السنوات الأخيرة ما يمكن تسميته "دورة المصطلحات"، حيث يتم استبدال تسمية بأخرى (من "معاق" إلى "ذوي احتياجات خاصة" ثم إلى "ذوي همم") في محاولة للابتعاد عن الدلالات السلبية.

اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، هو الخطوة الأولى والأساسية نحو تغيير العقليات.  

التعليم الدامج كأساس لجيل جديد:

يمثل التعليم حجر الزاوية في أي استراتيجية طويلة الأمد لمكافحة الوصمة. وهنا، يجب التمييز بوضوح بين مفهومي "الإدماج" و"الدمج".

إن الإدماج يعني وضع الطالب ذي الإعاقة في بيئة تعليمية عادية، ولكنه يلقي عليه عبء التكيف مع نظام لم يتغير.

الأطر القانونية والحق في المشاركة:

يجب أن تستند جهود بناء مجتمع دامج إلى أساس متين من الحقوق القانونية. توفر اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD)، التي صادقت عليها غالبية دول العالم، هذا الإطار.

هـ/ تغيير السردية: قوة الإعلام ونماذج النجاح الملهمة:

في معركة الأفكار والمواقف، يلعب الإعلام دورًا حاسمًا. فالقصص التي نرويها والصور التي نعرضها لديها القدرة على ترسيخ الصور النمطية أو تحطيمها. إن تغيير السردية السائدة حول الإعاقة هو أحد أقوى الأدوات المتاحة لدينا لإعادة تشكيل الوعي المجتمعي.

الدور المزدوج للإعلام: إدامة الوصمة أو تفكيكها:

"الإعلام، سواء كان تلفزيون وصحف أو منصات التواصل، عنده قوة كبيرة إنه يوجّه أفكار الناس ويأثر على طريقة نظرتهم للأحداث." ولسوء الحظ، غالبًا ما ساهم الإعلام في إدامة الوصمة من خلال تقديم صور نمطية ومحدودة للأشخاص ذوي الإعاقة.

فمن خلال تخصيص برامج ومساحات لنشر الوعي حول مفهوم الإعاقة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإبراز دور الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع، يمكن للإعلام أن يقود حوارًا مجتمعيًا إيجابيًا.

إستراتيجية التمثيل الإيجابي:

إن تغيير السردية يتطلب إستراتيجية واعية تتجاوز مجرد تجنب الصور السلبية. يجب أن تسعى وسائل الإعلام بنشاط إلى تقديم تمثيل إيجابي ودقيق.

وتشمل هذه الإستراتيجية عدة محاور:

رفع مكانة الأشخاص ذوي الإعاقة: يتم ذلك من خلال إظهارهم في أدوار تتسم بالكفاءة والمسؤولية: كأطباء، ومهندسين، ومعلمين، وقادة مجتمع، وآباء وأمهات.

مشاركة القصص الشخصية: إن مشاركة التجارب الشخصية والقصص الإنسانية هي أداة قوية لبناء التعاطف والتواصل. عندما يستمع الجمهور إلى قصة شخصية، فإنه يتجاوز التجريدات والأرقام ليرى الإنسان خلف الإعاقة.  

التمثيل العرضي (غير المقصود): ربما تكون أقوى إستراتيجيات التطبيع على المدى الطويل هي "التمثيل العرضي". هذا يعني إدراج شخصيات ذات إعاقة في الأفلام والمسلسلات والإعلانات حيث لا تكون إعاقتهم هي محور القصة.

نماذج للتميز: من طه حسين إلى أبطال العصر الحديث:

إن تسليط الضوء على قصص النجاح هو جزء حيوي من تغيير السردية، شرط أن يتم ذلك بحذر. يجب تجنب الوقوع في فخ ما يسمى بـ "إلهام الإباحية" (Inspiration Porn)، وهو تصوير الأشخاص ذوي الإعاقة على أنهم ملهمون لمجرد عيشهم حياتهم. هذا النهج، بدلًا من أن يرفع من شأنهم، فإنه يعزز فكرة أن حياتهم مأساوية بطبيعتها، وأن أي فعل استقلالية هو معجزة.

أيقونات تاريخية: شخصيات مثل طه حسين، "عميد الأدب العربي" الذي قهر الظلام وأثرى الفكر العربي فيالعالم أشخاص تركوا بصمة لا تُنسى، زي الفنانة فريدا كاهلو اللي حولت معاناتها مع شلل الأطفال إلى لوحات خالدة، أو توماس أديسون اللي اخترعاته غيرت حياة البشرية"أديسون رغم صعوبات التعلم اللي واجهها، قدر يهدي العالم المصباح الكهربائي، وده يورينا قد إيه قوة الإنسان في تخطي التحديات عالمية ومش مرتبطة بزمان أو مكان.

من بين أبطالنا العرب اليوم يبرز يوسف أبو عميرة، الشاب الفلسطيني اللي وُلد بنصف جسد، لكنه اختار يكتب قصته بنفسه بدل ما يترك الظروف تكتبها عنه.

مثال حي على إن الإرادة أقوى من أي قيود." بأنفه ليخاطب الآلاف. ونجد أيضًا كوكبة من الأبطال البارالمبيين الذين رفعوا اسم بلادهم عاليًا، مثل بطلة رفع الأثقال المصرية  

فاطمة عمر، الحائزة على ست ميداليات بارالمبية، وزميلها محمد الديب. هؤلاء الأبطال لا يُحتفى بهم لتحديهم لإعاقتهم، بل لإنجازاتهم الرياضية الاستثنائية التي تضعهم في مصاف أعظم الرياضيين في العالم.  

إن هذه القصص، عند تقديمها بالشكل الصحيح، لا تغير فقط نظرة المجتمع إلى الإعاقة، بل تغير أيضًا نظرة الأشخاص ذوي الإعاقة إلى أنفسهم، وتمنحهم الأمل والإيمان بإمكانياتهم اللامحدودة.

و/وفي الختام:

إن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة ليست حقيقة حتمية، بل هي بناء اجتماعي تاريخي يمكن، بل ويجب، تفكيكه.

 لقد أظهر هذا التقرير أن جذور الوصمة تمتد عميقًا في التاريخ، وتتغذى على أساطير ثقافية، وتترك آثارًا نفسية واجتماعية مدمرة لا تقتصر على الفرد بل تمتد لتشمل أسرته ومجتمعه، ولكن في مواجهة هذا التحدي، تبرز استراتيجيات واضحة وقوية للتغيير.

إن المعركة ضد الوصمة هي معركة متعددة الجبهات؛ تبدأ بالكلمات التي نختارها، وتمر عبر الفصول الدراسية الدامجة التي تربي جيلًا جديدًا على قيم القبول والتنوع، وتستند إلى أطر قانونية تضمن الحقوق والمشاركة، وتتوج بسردية إعلامية جديدة تحتفي بالإنسان في جوهره، لا في قالبه.

اقرأ ايضا : العدسة والمجتمع: كيف يصوغ الإعلام الصورة الذهنية عن الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم العربي؟

 هل لديك استفسار أو رأي؟

يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة.


إرسال تعليق

أحدث أقدم

منصة دوراتك استخدم كود وطن واحصل على خصم اضافي35% بمناسبة اليوم الوطني صالح حتى نهاية سبتمبر

نموذج الاتصال