رائج الان

العدسة والمجتمع: كيف يصوغ الإعلام الصورة الذهنية عن الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم العربي؟

العدسة والمجتمع: كيف يصوغ الإعلام الصورة الذهنية عن الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم العربي؟

إنسان مختلف... بذات القوة:

 الإعلام كمهندسٍ للمفاهيم:

إن وسائل الإعلام لا تعمل كمرآة سلبية تعكس الواقع المجتمعي فحسب، بل هي قوة فاعلة ومؤثرة في تشكيل هذا الواقع وبنائه.

العدسة والمجتمع: كيف يصوغ الإعلام الصورة الذهنية عن الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم العربي؟
العدسة والمجتمع: كيف يصوغ الإعلام الصورة الذهنية عن الأشخاص ذوي الإعاقة في العالم العربي؟

 فهي تسهم في صياغة الأعراف الاجتماعية، وتوجيه المواقف، بل وتشكيل الأطر المعرفية التي من خلالها يفهم الجمهور القضايا الاجتماعية المعقدة، ومن أبرزها قضية الإعاقة.

 وتكتسب هذه القوة الإعلامية تأثيرًا مضاعفًا في هذا السياق، نظرًا لأن العديد من أفراد الجمهور يعتمدون على الإعلام كمصدر رئيسي أو وحيد للمعلومات حول الأشخاص ذوي الإعاقة، مما يفتح الباب أمام تكوين انحيازات معرفية قوية، مثل "الاستدلال المبني على الاستدعاء السهل" (availability heuristic)، حيث تصبح الصور الإعلامية المكررة هي المرجع الذهني التلقائي لتقييم واقع بأكمله.  

على الصعيد العالمي، يمكن تتبع مسار تاريخي لتمثيل الإعاقة في الإعلام، بدءًا مما أطلق عليه الباحث نيلسون (2000) "العصور المظلمة للإعاقة"، والتي اتسمت بالتجاهل والتجريد من الإنسانية، وصولًا إلى مرحلة وعي جنيني بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت قصص "الانتهاكات الواضحة" للكرامة الإنسانية تجد طريقها إلى السطح. هذا السياق التاريخي ضروري لفهم الجذور العميقة للصور النمطية التي لا تزال قائمة حتى اليوم.  

أ/ المرآة المشوهة: تحليل نقدي للصور النمطية عن الإعاقة في الإعلام:

لقد اعتمد الإعلام، بقصد أو بغير قصد، على مجموعة من القوالب النمطية الجاهزة في تمثيله للأشخاص ذوي الإعاقة، مما أدى إلى تشويه الحقيقة وتكريس مفاهيم مغلوطة أثرت سلبًا على الأفراد والمجتمع ككل. يتناول هذا القسم تفكيك هذه الصور النمطية، وتصنيفها، وتحليل آثارها العميقة.

العدسة الإقليمية: تجليات الصور النمطية في الإعلام العربي:

تتخذ هذه القوالب العالمية أشكالًا محلية في المشهد الإعلامي العربي، وخاصة في الدراما التلفزيونية التي تتمتع بتأثير ثقافي هائل.

اقرأ ايضا : مخطط للمساواة الرقمية: ضمان وصول الأشخاص ذوي الإعاقة إلى المعلومات والاتصالات

كما تؤكد الدراسات التي أُجريت على الدراما العربية بشكل قاطع هيمنة التمثيلات السلبية والمشوهة والساخرة. وتُعد الإعاقات الذهنية والبصرية والجسدية هي الأكثر حضورًا على الشاشات العربية.  

أحد الأنماط السردية الشائعة في الدراما العربية هو التركيز على معاناة الأسرة بدلًا من استقلالية الشخص ذي الإعاقة، مما يؤطر الإعاقة كقضية عائلية ومصدر للمشقة المنزلية.

إن هذا التوجه السردي، وإن كان يهدف إلى استدرار التعاطف، إلا أنه يمثل تجليًا ثقافيًا خاصًا لصورة "العبء" النمطية.

 فمن خلال تركيز الكاميرا على كفاح الأسرة، يتم حصر "المشكلة" داخل جدران المنزل وفي جسد الفرد، مما يصرف الانتباه عن الإخفاقات المجتمعية الأوسع، مثل غياب البنية التحتية الميسرة، والسياسات التمييزية، ونقص خدمات الدعم.

 وبهذا، يتحول السرد الدرامي إلى آلية قوية، وإن كانت خفية، لتعزيز النموذج الطبي المأساوي للإعاقة، وفي الوقت نفسه، إعفاء المجتمع والدولة من مسؤولياتهما.  

الأثر المضاعف: الضرر النفسي والاجتماعي:

إن هذه التمثيلات الإعلامية المشوهة لا تبقى حبيسة الشاشات، بل تتسرب إلى الوعي الجمعي وتترتب عليها أضرار ملموسة على الصعيدين النفسي والاجتماعي.

  • تشكيل التصورات العامة: يغذي التمثيل الإعلامي الخاطئ التحيزات والمواقف السلبية لدى الجمهور، ويرسخ فكرة أن الأشخاص ذوي الإعاقة هم أشخاص غير أكفاء، أو معتمدون على غيرهم، أو غير منتجين. وهذا بدوره يخلق وصمة اجتماعية وحواجز تحول دون دمجهم في سوق العمل والحياة المجتمعية.  
  • الضرر الداخلي: تؤثر هذه الصور سلبًا على الصورة الذاتية والصحة النفسية للأشخاص ذوي الإعاقة أنفسهم، حيث تعزز لديهم مشاعر العجز والإقصاء.

 كما أن غياب النماذج الإيجابية التي يمكن الاقتداء بها يمكن أن يكون له أثر مدمر، خاصة على الأطفال والشباب، الذين لا يجدون في الإعلام من يعكس تجاربهم وطموحاتهم بشكل إيجابي.  

ب / إعادة صياغة السردية: الإمكانات التحويلية للتمثيلات الأصيلة:

في مقابل الصورة القاتمة التي رسمتها عقود من التمثيل الإعلامي المشوه، تبرز إمكانات هائلة لتغيير هذا الواقع من خلال تبني نهج جديد قائم على الأصالة والعمق الإنساني.

 إن الانتقال من النقد إلى الحل يكمن في معرفة القوة التحويلية للتمثيلات الإعلامية الإيجابية والواقعية، وتسليط الضوء على بوادر التقدم التي بدأت تظهر في الأفق.

قوة التمثيل الإيجابي والعميق:

إن تقديم صورة إعلامية جديدة ومتوازنة ليس مجرد تصحيح لأخطاء الماضي، بل هو أداة حيوية للتغيير الاجتماعي، يمكن أن يحقق الأهداف التالية:

  • تثقيف الجمهور وتعزيز التعاطف: عندما يُقدَّم الأشخاص ذوو الإعاقة كجزء طبيعي من التنوع البشري، وليس كحالات مأساوية استثنائية، فإن ذلك يسهم في تفكيك الصور النمطية، وتقليل وصمة العار، وبناء جسور من الفهم والتعاطف.  
  • تقديم نماذج ملهمة وممكنة: بالنسبة للشباب ذوي الإعاقة، فإن رؤية شخصيات تشبههم على الشاشة، تتمتع بالعمق والتعقيد والطموح، يمكن أن يكون له أثر تمكيني هائل على هويتهم الذاتية وثقتهم بأنفسهم.  
  • الدفع نحو التغيير الاجتماعي والسياسي: يمكن للسرديات الأصيلة، سواء في الأعمال الوثائقية أو الدرامية، أن تسلط الضوء على الحواجز الحقيقية التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة، مثل صعوبة الوصول والتمييز، مما يرفع الوعي العام ويحشد الدعم للضغط على صانعي السياسات لاتخاذ إجراءات ملموسة.

وقد أظهرت الدراسات أن التعرض للتمثيلات الإيجابية يقلل من المشاعر السلبية تجاه الإعاقة ويزيد من قدرة الجمهور على إدراك التمييز.  

منارات التقدم: دراسات حالة في السرد الشامل:

على الرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً، إلا أن هناك أعمالًا إعلامية بدأت تشق مسارًا جديدًا، متجاوزة القوالب النمطية و مقدمة نماذج يحتذى بها.

  • نماذج عالمية رائدة: أفلام مثل "CODA"، الذي حظي بإشادة واسعة لاختياره ممثلين صمًا لتمثيل شخصيات صماء وتقديمه صورة واقعية لتجارب أسرة من الصم، الذي يقدم قد يظهر البطل في القصة وهو يستخدم كرسيًا متحركًا، لكن حضوره لا يُختزل في إعاقته؛ بل يتم تقديمه كشخصية متكاملة بقدرات وأحلام وعلاقات، بحيث يكون الكرسي مجرد وسيلة للتنقل لا أكثر، بينما تبقى شخصيته الحقيقية هي ما يقود الأحداث.
  • أعمال رائدة في الإعلام العربي: على الرغم من الصورة العامة القاتمة، بدأت تظهر بوادر أمل في المشهد العربي.. نال عدد من المسلسلات الكويتية إشادة واسعة لأنها كسرت القوالب النمطية، وقدمت شخصيات من الصم بصورة إيجابية وملهمة، أظهرت قدراتهم وإنسانيتهم بعيدًا عن خطاب الشفقة المعتاد.أفق الإعلام الجديد: التمثيل الذاتي وبناء المجتمع

لقد أدى صعود الإعلام الرقمي إلى خلق فرص غير مسبوقة للأشخاص ذوي الإعاقة لتجاوز حراس البوابة التقليديين في صناعة الإعلام. فقد نشأ نظام بيئي متكامل من المدونات، والبودكاست (مثل بودكاست "Power, Not Pity")، وقنوات التواصل الاجتماعي التي أنشأها مجتمع ذوي الإعاقة لخدمة قضاياه. تُستخدم هذه المنصات للدفاع عن الحقوق، والتثقيف، وبناء مجتمعات داعمة، مما يقلل من العزلة ويتحدى الصور النمطية السلبية بشكل مباشر وفعال.  

ج/ خارطة طريق نحو نظام إعلامي دامج:

إن الانتقال من الوعي بالمشكلة إلى تطبيق الحلول يتطلب رؤية إستراتيجية وخارطة طريق واضحة المعالم، تشمل جميع الأطراف الفاعلة في المنظومة الإعلامية.

لم يعد الأمر مجرد دعوة لكتابة قصص أفضل، بل هو مطلب لإصلاح هيكلي شامل يربط بين التمثيل الإعلامي، والأطر التشريعية، والحوافز الاقتصادية.

 فالمحادثة قد نضجت من مجرد مناشدة الكتاب ليكونوا أكثر حساسية، إلى المطالبة بنهج نظامي يشمل السياسات (مثل تفعيل التزامات اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الإعلامية)، والممارسات الصناعية (التوظيف والتدريب)، والواقع الاقتصادي (النظر إلى مجتمع ذوي الإعاقة كسوق ومصدر للمواهب).  

لصناع المحتوى (الكتاب والمخرجون والمنتجون):

  • تفعيل مبدأ "لا شيء عنا بدوننا": يجب إعطاء الأولوية لتوظيف الأشخاص ذوي الإعاقة والتعاون معهم في جميع مراحل الإنتاج - كممثلين، وكتاب، ومخرجين، ومستشارين لضمان الأصالة والواقعية.

 إن ممارسة اختيار ممثلين من غير ذوي الإعاقة لأداء أدوار شخصيات ذات إعاقة هي ممارسة ضارة يجب أن تتوقف.  

  • تنويع السرديات: يجب تجاوز النطاق المحدود للإعاقات الذهنية والبصرية والجسدية، والعمل على تمثيل مجموعة أوسع من الإعاقات الظاهرة وغير الظاهرة.

 كما يجب إنتاج قصص لا تتمحور فقط حول الإعاقة نفسها، بل تتناول موضوعات إنسانية عالمية تكون فيها الإعاقة جزءًا من هوية الشخصية وليس كل هويتها.  

  • الاستثمار في التدريب والتطوير: يحتاج المهنيون في قطاع الإعلام إلى معرفة متخصصة بقضايا الإعاقة، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والمصطلحات اللغوية المناسبة.

للصحفيين وغرف الأخبار:

  • تبني إطار قائم على الحقوق: يجب تحويل تركيز التغطيات الإخبارية من الشفقة والمأساة أو الإلهام السطحي إلى إطار قائم على حقوق الإنسان، والحقوق المدنية، والعدالة الاجتماعية.  
  • أهمية اللغة: يجب استخدام لغة محترمة تركز على الشخص أولًا (مثل "شخص ذو إعاقة" بدلًا من "المعاق")، والرجوع إلى أدلة الأسلوب المتخصصة. كما يجب تجنب المصطلحات المثيرة أو المهينة التي تكرس الصور النمطية.  
  • تجاوز السطح: بدلًا من تغطية الفعاليات الخيرية الموسمية، يجب على الصحافة الاستقصائية التحقيق في القضايا النظامية مثل إمكانية الوصول، والتمييز في التوظيف، وتطبيق السياسات والقوانين المتعلقة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.  

لإستراتيجيي المحتوى الرقمي: دمج إمكانية الوصول مع الظهور:

في العصر الرقمي، لم تعد إمكانية الوصول إلى المحتوى مجرد التزام أخلاقي، بل أصبحت ميزة إستراتيجية أساسية لتحسين محركات البحث (SEO). إن تطبيق إرشادات الوصول إلى محتوى الويب (WCAG) يخلق تآزرًا قويًا بين الأخلاق والاستراتيجية.

  • النص البديل للصور (Alt Text): يجعل المحتوى المرئي مفهومًا لمستخدمي قارئات الشاشة، وفي الوقت نفسه، يزود محركات البحث بمعلومات دقيقة عن محتوى الصورة، مما يحسن من أرشفتها وظهورها في نتائج البحث عن الصور.  
  • هيكلة العناوين السليمة (H1, H2, إلخ): تسمح لمستخدمي قارئات الشاشة بالتنقل في المحتوى بكفاءة، وتساعد محركات البحث على فهم البنية الهرمية للمقالة وأهمية كل قسم، مما يعزز من تصنيفها.  
  • نصوص الروابط الوصفية: إعلام المستخدمين (ومحركات البحث) بوجهة الرابط بوضوح يحسن من تجربة المستخدم وأداء الموقع في محركات البحث، مقارنة بالنصوص الغامضة مثل "اضغط هنا".  
  • التسميات التوضيحية (Captions) ونصوص الفيديو: تعد ضرورية للمستخدمين ذوي الإعاقات السمعية، كما أنها تسمح لمحركات البحث بفهرسة المحتوى الصوتي للفيديو، مما يزيد من فرص ظهوره في نتائج البحث.  

د/ وفي الختام: نحو رؤية إعلامية جديدة:

لقد أثبت التحليل أن الإعلام يمتلك قوة هائلة في نحت التصورات وتشكيل الوعي، وهي قوة استخدمت تاريخيًا، في كثير من الأحيان، لترسيخ صور نمطية مؤذية عن الأشخاص ذوي الإعاقة، حيث تم حصرهم في قوالب الشفقة، أو الشر، أو البطولة الخارقة.

إن تقديم تمثيل أصيل وعادل للأشخاص ذوي الإعاقة لم يعد خيارًا إضافيًا، بل هو جزء لا يتجزأ من الممارسة الإعلامية الأخلاقية والمهنية في القرن الحادي والعشرين. إنه مقياس لمدى التزام وسائل الإعلام بعكس التنوع الحقيقي للمجتمع الذي تخدمه.

اقرأ ايضا : تحديات تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة في سوق العمل وكيف نتغلب عليها؟

هل لديك استفسار أو رأي؟

يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

منصة دوراتك استخدم كود وطن واحصل على خصم اضافي35% بمناسبة اليوم الوطني صالح حتى نهاية سبتمبر

نموذج الاتصال