كيف تتعمل مع الأشخاص الذين يستنفزون طاقتك؟
ذاتك في مرحلة النضج
هل خرجت يومًا من اجتماع عمل أو جلسة عائلية وأنت تشعر بأن بطاريتك قد نَفِدت تمامًا؟
ليس ذاك التعب الجسدي المبرر، بل إحساس بالخواء الذهني والعاطفي، وكأن أحدهم سحب منك حماسك وتفاؤلك وتركك فارغًا.
تجلس في سيارتك صامتًا، تحاول استجماع شتات أفكارك، وتتساءل: لماذا أشعر بهذا الثقل بعد حديثي مع فلان تحديدًا؟كيف تتعمل مع الأشخاص الذين يستنفزون طاقتك؟
هذا الشعور ليس محض خيال، بل هو عرض واضح لظاهرة استنزاف الطاقة النفسية على يد أشخاص، نصفهم مازحين جادّين بأنهم "مصاصو الطاقة".
هؤلاء ليسوا كائنات خرافية، بل أفراد من لحم ودم، قد يكونون زملاء عمل، أصدقاء، أو حتى أفرادًا من العائلة.
هم أشخاص عالقون في دوامة من السلبية أو النرجسية أو الدراما الدائمة، وبدون وعي منهم، يستخدمون طاقتك كوقود لهم.
التعامل معهم ليس رفاهية، بل ضرورة قصوى للحفاظ على سلامك النفسي، وتركيزك المهني، وقدرتك على الاستمتاع بحياتك.
هذا المقال ليس مجرد تشخيص للمشكلة، بل هو خريطة طريق عملية، ستأخذ بيدك لتتعلم كيف تتعرف عليهم، وكيف تبني دروعك النفسية، وتستعيد زمام السيطرة على أهم أصولك: طاقتك.
أ/ قبل المواجهة: كيف تكتشف مصاصي الطاقة في محيطك؟
قبل أن تفكر في بناء الجدران، يجب أن تعرف تمامًا أين تضعها.
اكتشاف مصاصي الطاقة هو الخطوة الأولى والأكثر أهمية، لأنه يحوّل شعورك الغامض بالإرهاق إلى تشخيص واضح يمكنك التعامل معه.
هؤلاء الأشخاص لا يرتدون علامات تحذيرية، بل غالبًا ما يكونون بارعين في التخفي خلف أقنعة الصداقة، أو الحاجة، أو حتى الود الظاهري.
لكن الأثر الذي يتركونه خلفهم هو بصمتهم التي لا تخطئ.
أولى العلامات هي شعورك أنت.
بعد قضاء وقت مع شخص ما، هل تشعر بالنشاط والإلهام أم بالاستنزاف والتوتر؟
هل تجد نفسك تتجنب الرد على مكالماته أو رسائله؟
هل تشعر بأنك تمشي على قشر بيض في حضوره، خوفًا من إثارة دراما جديدة أو موجة من الشكوى؟
هذه ليست مشاعر عابرة، بل هي بيانات يرسلها لك حدسك ليخبرك أن هذه العلاقة تكلّفك أكثر مما تمنحك.
انتبه لهذا النمط؛ إذا تكرر مع الشخص نفسه، فهذه إشارة قوية.
هناك أنواع متعددة منهم.
يوجد "الضحية الأبدية" الذي لا تنتهي مشاكله أبدًا، وكل محادثة معه تتحول إلى جلسة تفريغ لشكواه دون أن يأخذ بأي نصيحة تقدمها. وهناك "الناقد المتسلط" الذي يجد دائمًا عيبًا في كل ما تفعله أو تقوله، ويُشعرك بأنك لست جيدًا بما فيه الكفاية، مما يغذي شكوكك الذاتية. ولا ننسى "ملك الدراما" الذي يعيش على إثارة الأزمات وتضخيمها، ويجذبك إلى عالمه الفوضوي.
قد يتساءل البعض: هل كل شخص سلبي هو من مصاصي الطاقة؟ الجواب هو لا.
كلنا نمر بأوقات صعبة ونحتاج للدعم، لكن الفارق الجوهري هو أن العلاقة الصحية فيها تبادل، أما مع مستنزف الطاقة، فالطريق ذو اتجاه واحد فقط؛
طاقتك تتدفق خارجه ولا يعود منها شيء.
الخطوة العملية الأولى هي المراقبة الواعية.
على مدار أسبوع، احتفظ بمذكرة صغيرة (على هاتفك أو في دفتر) وسجّل مشاعرك بعد كل تفاعل اجتماعي مهم.
اكتب اسم الشخص وبجانبه كلمة واحدة تصف شعورك: "مُلهَم"، "مرهَق"، "متوتر"، "سعيد".
بعد أسبوع، ستظهر لك الأنماط بوضوح تام.
ستكتشف أن فلانًا يتركك دائمًا مرهقًا، بينما علّان يجعلك تشعر بالخفة.
هذه البيانات ليست لإصدار الأحكام، بل لمنحك الوضوح الذي تحتاجه لاتخاذ خطواتك التالية بحكمة وثقة، مدركًا أنك لا تتوهم، بل تتعامل مع واقع ملموس يؤثر على جودة حياتك.
ب/ فن وضع الحدود الصحية: درعك النفسي الأول
بمجرد أن تحدد مصادر استنزاف الطاقة في حياتك، تأتي الخطوة الحاسمة: بناء درعك الواقي.
هذا الدرع ليس جدارًا من العزلة، بل هو مجموعة من "الحدود الصحية" الواضحة والمرنة.
وضع حدود صحية هو أسمى أشكال حب الذات، وهو لا يعني أنك شخص قاسٍ أو أناني، بل يعني أنك تحترم طاقتك ووقتك وسلامك النفسي كأصول ثمينة لا يمكن التفريط فيها.
اقرأ ايضا: لماذا تشعر بالملل رغم تحقيق أهدافك؟
بدون حدود، أنت أشبه بمدينة مفتوحة بلا أسوار، تسمح لأي عابر سبيل بأن ينهب مواردها ويتركها خرابًا.
كثيرون يخشون وضع حدود صحية خوفًا من ردة فعل الطرف الآخر؛
الخوف من أن يُنظر إليهم على أنهم غير لطفاء، أو الخوف من خسارة العلاقة.
لكن الحقيقة هي أن أي علاقة تنهار لمجرد أنك وضعت حدًا صحيًا لم تكن علاقة حقيقية من الأساس، بل كانت علاقة استغلال. الحد الصحي لا يهدف إلى إيذاء الآخرين، بل إلى حماية نفسك. هو ليس "لا" قاسية، بل هو "نعم" أعمق لذاتك ورفاهيتك.
كيف تبدو هذه الحدود على أرض الواقع؟
قد تكون بسيطة جدًا.
مثلًا، إذا كان لديك زميل عمل في جدة يقضي ساعة يوميًا يشكو لك من مديره، يمكنك أن تقول بلطف وحزم: "أتفهم أنك تمر بوقت عصيب، ولكني الآن أحتاج للتركيز على هذه المهمة.
ربما يمكننا الحديث لمدة عشر دقائق فقط بعد انتهاء الدوام".
هنا، أنت لم تهاجمه، بل وضعت حدًا زمنيًا واضحًا. مثال آخر، إذا كانت لديك صديقة تتصل بك في وقت متأخر من الليل لتصنع دراما من لا شيء، يمكنك ببساطة عدم الرد على الهاتف وإرسال رسالة في الصباح: "آسفة، لم أتمكن من الرد ليلة أمس.
أتمنى أن يكون كل شيء بخير". هذا يعلّم الآخرين أن وقتك الخاص مقدس.
ج/ لغة الحزم والتعاطف: كيف تتواصل بذكاء عاطفي؟
إن معرفة حدودك شيء، والتعبير عنها بفاعلية شيء آخر تمامًا.
هنا يأتي دور الذكاء العاطفي، فهو الجسر الذي يسمح لك بإيصال رسالتك بحزم دون عدوانية، وبتعاطف دون ضعف.
كثير من محاولات وضع حدود صحية تفشل ليس بسبب الفكرة، بل بسبب طريقة التنفيذ.
الصراخ أو التجاهل التام قد يؤديان إلى تصعيد الموقف، بينما الضعف والتردد يرسلان إشارة للطرف الآخر بأن حدودك قابلة للاختراق.
المفتاح يكمن في استخدام "عبارات الأنا" (I-statements) .
بدلًا من توجيه الاتهام بقول: "أنت دائمًا سلبي وتستنزفني"، وهو ما يضع الطرف الآخر في موقف دفاعي، جرّب صياغة الجملة حول شعورك أنت.
قل مثلًا: "أنا أشعر بالإرهاق عندما يتركز حديثنا على المشاكل باستمرار، وأحتاج إلى تغيير الموضوع قليلًا لنستعيد طاقتنا".
هذه الصياغة لا تهاجم، بل تصف تأثير سلوكهم عليك، وهو أمر لا يمكنهم المجادلة فيه. إنها حقيقة شعورك.
التعاطف سلاح قوي في هذه المواقف.
عندما تبدأ حديثك بالاعتراف بمشاعر الطرف الآخر، فإنك تنزع فتيل أي مقاومة محتملة.
على سبيل المثال، مع قريب كثير الشكوى، يمكنك أن تبدأ بقول: "يبدو أنك تحمل الكثير على عاتقك، وأنا أقدّر ثقتك بي لمشاركتي همومك".
بعد هذا التمهيد المتعاطف، يمكنك وضع حدّك: "في الوقت نفسه، أشعر بأنني أصبحت غير قادر على المساعدة بفاعلية، وأثر ذلك سلبًا على طاقتي.
ربما من الأفضل أن نبحث عن حلول عملية أو نخصص وقتًا للحديث عن أمور أخرى مبهجة أيضًا".
أنت هنا لم تقل له "اصمت"، بل أظهرت تعاطفًا ثم أوضحت حدود قدرتك على التحمل.
د/ عندما يكون المستنزف قريبًا: استراتيجيات للتعامل مع الأهل والأصدقاء
لعل أصعب التحديات على الإطلاق هو عندما يكون الشخص الذي يستنزفك ليس مجرد زميل عابر، بل صديق مقرب، أو شريك حياة، أو أحد الوالدين.
هنا، خيار "القطع" الكامل نادرًا ما يكون متاحًا أو مرغوبًا فيه.
هذه العلاقات السامة أو المستنزفة تتطلب استراتيجيات أكثر دقة وحكمة، تجمع بين الحفاظ على صلة الرحم أو الود، وبين حماية النفس من الأذى المستمر.
الخطوة الأولى هي التخلي عن وهم تغييرهم.
لا يمكنك تغيير شخص لا يريد التغيير.
محاولاتك المستمرة لإصلاحهم أو جعلهم يرون العالم من منظورك لن تؤدي إلا إلى مزيد من استنزاف الطاقة والإحباط.
بدلاً من التركيز على تغييرهم، حوّل كل تركيزك وطاقتك نحو تغيير طريقة تفاعلك معهم.
أنت لا تتحكم في أفعالهم، لكنك تتحكم بنسبة مئة بالمئة في ردود أفعالك.
هذا التحول في العقلية هو نقطة البداية الحقيقية للتحرر.
الاستراتيجية الثانية هي "المشاركة المحدودة والمقصودة".
هذا يعني أنك تقرر بوعي تام كمية الوقت والطاقة التي ستستثمرها في هذه العلاقة.
بدلًا من قضاء يوم كامل مع قريب سلبي، اجعلها زيارة لمدة ساعة في مكان عام.
بدلًا من الدخول في نقاشات فلسفية عميقة مع صديق لا هم له سوى الجدال، أبقِ المحادثات قصيرة وسطحية.
يمكنك أن تحب شخصًا من مسافة آمنة.
هذا لا يجعلك سيئًا، بل يجعلك حكيمًا في إدارة مواردك النفسية.
التقنية الثالثة هي خلق "مساحات عازلة".
قبل وبعد التفاعل مع هذا الشخص، خصص وقتًا لنفسك لإعادة شحن طاقتك.
قبل زيارة عائلية تعلم أنها ستكون مرهقة، اقضِ نصف ساعة في ممارسة شيء تحبه: قراءة بضع صفحات من كتاب، أو الاستماع إلى بودكاست ملهم، أو المشي في الهواء الطلق.
هـ/ ما بعد السموم: كيف تستعيد طاقتك وتُحصّن عالمك الداخلي؟
التعامل مع مصاصي الطاقة لا ينتهي عند وضع الحدود أو تقليل التواصل.
هذه مجرد إجراءات دفاعية. الجزء الأهم هو العملية الهجومية الإيجابية: كيف تملأ الفراغ الذي تركوه، وتستعيد حيويتك، وتبني حصونًا داخلية تمنع تكرار الموقف في المستقبل؟
إن التعافي من استنزاف الطاقة هو عملية بناء واستثمار في عالمك الداخلي.
عليك أن تعيد شحن "بطاريتك" العاطفية والذهنية بشكل واعٍ.
فكّر في الأنشطة التي تمنحك شعورًا بالامتلاء والسكينة.
بالنسبة لشخص ما، قد يكون ذلك قضاء وقت في الطبيعة.
لآخر، قد يكون الانغماس في هواية إبداعية كالرسم أو الكتابة.
وقد يكون لشخص ثالث ممارسة الرياضة أو التأمل أو قضاء وقت مع أصدقاء إيجابيين وملهمين.
حدد "شواحن الطاقة" الخاصة بك، وأدرجها في جدولك اليومي والأسبوعي كأنها مواعيد عمل لا يمكن إلغاؤها.
هذه ليست رفاهية، بل هي صيانة أساسية لسلامك النفسي.
و/ وفي الختام:
إن رحلة التعافي هذه هي فرصة ذهبية لإعادة اكتشاف نفسك.كل علاقة مستنزِفة مررت بها هي في الحقيقة درس قاسٍ يعلمك ما الذي تقدره حقًا، وأين يجب أن تضع حدودك، ومن أنت عندما تكون في أفضل حالاتك.
لا تنظر إلى الماضي بمرارة، بل انظر إليه كبيانات ساعدتك على تصميم مستقبل أكثر إشراقًا وصحة.
بتحصين عالمك الداخلي، أنت لا تحمي نفسك من مصاصي الطاقة المستقبليين فحسب، بل تصبح أنت نفسك منارة للطاقة الإيجابية، تجذب إليك الأشخاص والعلاقات التي تستحقها حقًا.
لقد تعلمنا أن مواجهة مستنزفي الطاقة ليست معركة مع الآخرين بقدر ما هي رحلة لإعادة بناء علاقتنا مع أنفسنا.
تبدأ بالوعي والتشخيص، ثم تنتقل إلى الشجاعة في وضع حدود صحية، وتتطور إلى حكمة في التواصل بـذكاء عاطفي، وتبلغ ذروتها في استعادة زمام السيطرة على طاقتنا الداخلية.
الأمر لا يتعلق بعزل أنفسنا عن العالم، بل باختيار شروطه بوعي.
إن حماية طاقتك ليست أنانية، بل هي مسؤوليتك الأولى تجاه نفسك وتجاه كل من تخدمهم في هذه الحياة، سواء في عملك أو أسرتك.
فمن الكأس الفارغة لا يمكن سكب شيء. ابدأ اليوم بتحديد علاقة واحدة تستنزفك، وطبق خطوة واحدة صغيرة من هذا الدليل.
هذه الخطوة قد تكون بداية تحولك نحو حياة أكثر قوة وحيوية.
اقرأ ايضا: كيف تبني علاقة صحية مع ذاتك؟
هل لديك استفسار أو رأي؟
يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة .