لماذا يفقد بعض المراهقين شغفهم بالحياة؟

لماذا يفقد بعض المراهقين شغفهم بالحياة؟

من الطفولة إلي المراهقة

هل تتذكر ابنك أو ابنتك قبل سنوات قليلة؟ ذلك الطفل الذي كانت عيناه تلمعان بالفضول، يركض خلف فراشة، أو يقضي ساعات في بناء قلعة من المكعبات، كل حواسه مستنفرة وشغفه متقد.

 ثم، وبمرور الوقت، تلاحظ أن ذلك البريق بدأ يخفت.

لماذا يفقد بعض المراهقين شغفهم بالحياة؟
لماذا يفقد بعض المراهقين شغفهم بالحياة؟

أصبح يجلس لساعات صامتًا، هائمًا في شاشة هاتفه، إجاباته مقتضبة، وحماسه للأنشطة التي كان يحبها قد تبخر.

 تسأل نفسك بقلق: أين ذهبت تلك الروح المنطلقة؟

هذه ليست حكايتك وحدك، بل هي قصة تتكرر في بيوت كثيرة، صدى لأزمة صامتة يعيشها جيل بأكمله. إن فقدان الشغف عند المراهقين ليس مجرد "مزاجية" عابرة أو "كسل" طبيعي في هذه المرحلة، بل هو عرض لواقع أعمق وأكثر تعقيدًا.

إنه أشبه بنبتة توقفت عن النمو، ليس لأن البذرة فاسدة، بل لأن التربة المحيطة بها لم تعد توفر لها ما تحتاجه من ضوء وماء وغذاء.

 هذه "التربة" هي مزيج معقد من الضغوط الاجتماعية، والتوقعات الأسرية، والتغيرات البيولوجية، وعالم رقمي لا يرحم.

 إن فهم مكونات هذه التربة السامة هو الخطوة الأولى نحو إعادة إحياء ذلك الشغف المنطفئ.

أ/ تحت وطأة التوقعات: حين تتحول الأحلام إلى أعباء

في كثير من مجتمعاتنا، يُنظر إلى المراهقة على أنها ليست مرحلة للاكتشاف، بل سباق ماراثوني نحو هدف واحد محدد مسبقًا: التفوق الأكاديمي الذي يضمن الالتحاق بـ"كلية قمة".

تبدأ ضغوط الدراسة في التراكم منذ سن مبكرة، وتتحول حياة المراهق إلى جدول صارم من الدروس والمذاكرة والامتحانات، كل ذلك تحت ضغط التوقعات العالية من الأهل والمدرسة.

هذا الضغط، حتى لو كان نابعًا من الحب، يتحول ببطء إلى سيف مسلط فوق رقبة المراهق.

هذا التركيز الأحادي على التحصيل الدراسي يخنق أي فرصة لاستكشاف اهتمامات أخرى.

 الشاب الذي يمتلك موهبة فذة في النجارة أو الفتاة التي تبدع في كتابة القصص، قد لا يجدان وقتًا أو تشجيعًا لتنمية هذه المواهب، لأنها تُعتبر "مضيعة للوقت" الذي يجب أن يُكرس للفيزياء والرياضيات.

 ومع الوقت، يتعلم المراهق رسالة خطيرة: قيمته مرتبطة بدرجاته فقط، وليس بشخصيته أو مواهبه الفريدة أو لطفه أو إبداعه.

 تتشكل لديه قناعة بأنه مجرد رقم في شهادة، وهذا يفرغه من إنسانيته.

يؤدي هذا الضغط المستمر إلى نتيجة عكسية تمامًا؛ فبدلاً من أن يكون دافعًا، يصبح مصدرًا للقلق المزمن والإرهاق النفسي والجسدي.

 يفقد المراهق صلته بالسبب الحقيقي للتعلم، وهو متعة المعرفة وتوسيع المدارك، ويصبح همه الوحيد هو تجنب الفشل وإرضاء الآخرين.

عندما يصبح النجاح مرادفًا لتحقيق توقعات خارجية لا تنبع من رغبة داخلية، فإن الشغف هو أول ضحية. يبدأ الشعور باللامبالاة كآلية دفاعية، فما جدوى بذل الجهد في سباق لم أختره بنفسي ولم أعد أستمتع به؟

 إنها حالة من "العجز المكتسب"، حيث يشعر المراهق أنه لا يملك أي سيطرة على مسار حياته.

لمواجهة هذا، يجب على الآباء إعادة تقييم رسائلهم.

بدلاً من سؤال "كم حصلت في الامتحان؟"،

يمكن طرح سؤال "ما هو أكثر شيء ممتع تعلمته اليوم؟".

 يجب تخصيص وقت "غير منظم" في جدولهم، وقت للاستكشاف الحر دون هدف أكاديمي.

 الاحتفاء بالجهد المبذول وليس النتيجة فقط، وتقدير مواهبهم الأخرى بنفس القدر، يرسل رسالة قوية: "نحن نحبك ونقدرك لشخصك، وليس فقط لإنجازاتك".

إن أول خطوة لمواجهة فقدان الشغف عند المراهقين هي تخفيف هذا العبء، وتحويل المنزل من قاعة محكمة إلى واحة آمنة للاستكشاف والنمو.

ب/ المتاهة الرقمية: عالم من المقارنات اللانهائية والإشباع الفوري

في الماضي، كانت دائرة المقارنة الاجتماعية للمراهق تقتصر على زملائه في الفصل أو أبناء الجيران.

أما اليوم، وبفضل تأثير العالم الرقمي، أصبح يقارن حياته العادية بـ"أفضل اللحظات" المنتقاة بعناية في حياة آلاف، بل ملايين الأشخاص حول العالم.

يفتح المراهق هاتفه ليرى صورًا لأقرانه في رحلات مذهلة، أو يحتفلون بإنجازات استثنائية، أو يبدون في أبهى صورة من السعادة والثقة.

اقرأ ايضا: كيف تزرع روح القيادة في طفلك مبكرًا؟

هذه المقارنة المستمرة تخلق شعورًا عميقًا بالنقص والدونية.

يبدأ المراهق في الاعتقاد بأن حياته "مملة" أو "غير كافية" مقارنة بالمعايير غير الواقعية التي يراها على الشاشة.

 هذا الشعور يستنزف طاقته النفسية ويُفقده الرضا عن واقعه، ويجعله يشعر أنه متخلف عن الركب.

 إنه سم بطيء المفعول يقتل تقديره لذاته.

على صعيد آخر، فإن التدفق اللامتناهي للمحتوى الترفيهي السريع والمكثف على منصات مثل تيك توك وإنستغرام يعيد برمجة أدمغتهم.

هذه المقاطع القصيرة مصممة لتقديم جرعات سريعة ومكثفة من الدوبامين (هرمون المكافأة)، مما يدرب الدماغ على توقع الإشباع الفوري.

 نتيجة لذلك، تصبح الأنشطة التي تتطلب صبرًا وجهدًا وتركيزًا - وهي أساس بناء أي شغف حقيقي - تبدو باهتة ومملة بشكل لا يطاق.

ج/ البحث عن الهوية: ضياع في محيط من الخيارات اللامتناهية

تُعتبر المراهقة رحلة أساسية لاكتشاف الذات وبناء الهوية.

 في هذه المرحلة العاصفة، يحاول الشاب أو الفتاة الإجابة عن أسئلة وجودية كبرى: من أنا؟

 ما هي قيمي؟

 ما الذي أؤمن به؟

 أين مكاني في هذا العالم؟

هذه العملية، رغم أنها طبيعية وضرورية، إلا أنها قد تكون مربكة ومحفوفة بالقلق، خاصة في عالم اليوم الذي يطرح خيارات لا حصر لها ويفرض ضغطًا هائلاً لـ"صناعة الذات".

الضغط المتزايد على المراهقين لـ"إيجاد شغفهم" في سن مبكرة قد يأتي بنتائج عكسية.

 عندما لا يجد المراهق ذلك "الشغف" الكبير الذي يتحدث عنه الجميع، قد يشعر بالضياع أو الفشل أو أنه "معيب".

 الحقيقة التي غالبًا ما نغفلها هي أن الشغف لا يُكتشف فجأة مثل كنز مدفون، بل يُبنى ويُصقل تدريجيًا عبر التجربة والاستكشاف والخطأ.

إن إجبار المراهق على اختيار مسار حياته بالكامل في سن السادسة عشرة هو أشبه بمطالبته باختيار شريك حياته قبل أن يعرف نفسه حق المعرفة.

 هذا يؤدي إلى ما يسميه علماء النفس "هوية مغلقة"، حيث يتبنى المراهق هوية مفروضة عليه من الخارج دون استكشاف داخلي حقيقي.

د/ الكفاح الصامت: حين يكون اللامبالاة نداء استغاثة

في كثير من الأحيان، ما يبدو على السطح أنه كسل أو تمرد أو لامبالاة، قد يكون في الحقيقة قمة جبل جليدي يخفي تحته صراعًا نفسيًا أعمق.

 تُعد مرحلة المراهقة، بما فيها من تغيرات هرمونية وجسدية وضغوط اجتماعية، فترة خصبة لظهور أو تفاقم تحديات صحة المراهقين النفسية، مثل اضطرابات القلق، نوبات الهلع، أو الأعراض المبكرة للاكتئاب.

المراهق الذي يعاني من القلق الاجتماعي قد يتجنب التجمعات والأنشطة التي كان يحبها ليس لأنه لم يعد شغوفًا بها، بل لأن فكرة التفاعل مع الآخرين تثير في نفسه خوفًا ورعبًا لا يمكن السيطرة عليه.

والمراهق الذي يعاني من أعراض الاكتئاب قد يفقد الاهتمام بكل شيء (Anhedonia)، ويشعر بإرهاق دائم، وينسحب إلى عزلته، ليس لأنه "سلبي" بطبعه، بل لأن حالته الصحية تسرق منه طاقته وقدرته على الشعور بالمتعة.

 إن اللامبالاة هنا ليست خيارًا، بل هي عرض مرضي.

من المهم جدًا ألا نتسرع في إطلاق الأحكام أو استخدام عبارات مثل "كن إيجابيًا" أو "الأمر لا يستحق كل هذا".

 غالبًا ما يطرح الأهالي أسئلة مثل: كيف أفرق بين مزاجية المراهقة الطبيعية والمشكلة الحقيقية؟

 أو متى يجب أن أطلب المساعدة المتخصصة؟

القاعدة العامة هي مراقبة مدة التغيير وشدته وتأثيره على مجالات حياته الأساسية.

 إذا استمرت حالة الانعزال وفقدان الاهتمام لأسابيع (وليس مجرد أيام)، وأثرت بشكل ملحوظ على دراسته وعلاقاته ونظافته الشخصية ونومه وشهيته، فهذه علامات واضحة على أن الأمر يتجاوز مجرد تحديات المراهقة العادية.

 هنا، يصبح طلب المساعدة من متخصص نفسي موثوق ليس خيارًا، بل ضرورة.

إن وصم طلب المساعدة النفسية في مجتمعاتنا هو أحد أكبر العوائق أمام تعافي أبنائنا، ودور الأهل هو كسر هذا الحاجز وخلق حوار مفتوح وصريح حول الصحة النفسية باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الصحة العامة.

هـ/ الانفصال عن الغاية: عندما تفقد الأنشطة اليومية معناها

يعيش الإنسان بالشغف عندما يشعر أن ما يفعله له معنى وغاية تتجاوز الفعل نفسه.

 قد يجد المراهق نفسه غارقًا في روتين يومي من الأوامر والواجبات: اذهب إلى المدرسة، ذاكر، رتب غرفتك، نم مبكرًا.

عندما تتحول حياته إلى قائمة مهام لا نهاية لها، دون أن يفهم "لماذا" يفعل كل هذا، يبدأ الشعور بالخواء والتفاهة بالسيطرة عليه.

 إنه شعور بالانفصال عن أي هدف ذي معنى، مما يجعل أي جهد يبدو عبثيًا.

إن أحد أقوى محركات الشغف هو الشعور بالارتباط بهدف أسمى أو خدمة الآخرين.

 إن فقدان الشغف عند المراهقين غالبًا ما يرتبط بشعورهم بأنهم مجرد متلقين سلبيين في هذه الحياة، وليسوا فاعلين أو مساهمين لهم قيمة.

يمكن إعادة إشعال هذه الجذوة من خلال مساعدتهم على إيجاد أو خلق معنى في أنشطتهم.

بدلاً من مجرد أمرهم بالمذاكرة، يمكن ربط مادة العلوم مثلًا بهدف حماية البيئة، أو ربط الرياضيات بفهم الاقتصاد وإدارة الموارد.

شجع ابنك أو ابنتك على المشاركة في أعمال تطوعية في مجتمعهم المحلي، مثل المساعدة في تنظيم حملة نظافة للحي، أو تعليم الأطفال الصغار في أحد المراكز القريبة، أو المشاركة في توزيع الطعام على المحتاجين.

 هذه الأنشطة تمنحهم شعورًا فوريًا بالإنجاز والتأثير الإيجابي، وتوضح لهم أن لديهم القدرة على إحداث فرق حقيقي في العالم، مهما كان صغيرًا.

كذلك، يمكن ربط هواياتهم بغايات مفيدة؛

فالفتاة التي تحب التصميم يمكنها المساعدة في تصميم ملصقات لحملة توعوية خيرية، والشاب الذي يتقن التعامل مع الحاسوب يمكنه مساعدة كبار السن في الحي على تعلم المهارات الرقمية الأساسية.

 عندما يرى المراهق أن مهاراته واهتماماته يمكن أن تكون مصدر نفع للآخرين، يكتسب دافعًا داخليًا قويًا يتجاوز مجرد التسلية.

هذا الإحساس بالغاية هو الترياق الأقوى للشعور باللامبالاة، وهو ما يغذي شغفه ويقوي ارتباطه بالحياة من جديد.

و/ وفي الختام:

 إن رحلة المراهق عبر بحر الحياة المتلاطم هي رحلة معقدة، وفقدان الشغف أحيانًا هو أشبه بضباب كثيف يحجب الرؤية مؤقتًا، أو عاصفة تجبر السفينة على البقاء في الميناء.

 دورنا كأهل ومربين ليس أن نقود السفينة بدلاً منهم أو نلومهم على توقفهم، بل أن نكون المنارة التي ترشدهم، والميناء الآمن الذي يلجؤون إليه لإصلاح أشرعتهم الممزقة.

إن مفتاح إعادة إشعال حماسهم لا يكمن في المزيد من الضغط والأوامر، بل في المزيد من الفهم والتعاطف والحوار المفتوح.

 استمع إليهم أكثر مما تتكلم، واحتفِ بجهودهم الصغيرة قبل إنجازاتهم الكبيرة، وامنحهم مساحة آمنة ليكتشفوا أنفسهم ويخطئوا ويتعلموا.

 تذكر دائمًا أن الشغف ليس شيئًا نزرعه فيهم، بل هو بذرة موجودة بداخل كل منهم، وكل ما تحتاجه هو التربة الصالحة لتنمو وتزهر.

اقرأ ايضا: ما العلامات التي تدل أن ابنك بحاجة لاحتواء؟

هل لديك استفسار أو رأي؟

يسعدنا دائمًا تواصلك معنا! إذا كانت لديك أسئلة أو ملاحظات، يمكنك التواصل معنا عبر صفحة [اتصل بنا] أو من خلال بريدنا الإلكتروني، وسنحرص على الرد عليك في أقرب فرصة ممكنة .

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال